الرأي

حروب على أنقاض التسويات في اليمن

الاتفاق لم يستطع إقناع المكونات اليمنية المتصارعة آنذاك بضرورة الانخراط في عملية سياسية حقيقية خالية من عقد الماضي وأحقاده.

صالح البيضاني

 

دأب السياسيون في اليمن إلى النظر للاتفاقات باعتبارها جزءا أصيلا من الصراع في طوره الأقل عنفا، لذلك ارتبط تاريخ الاتفاقات السياسية دائما بالفشل، فبعد كل اتفاق عادة ما كانت تهب رياح دوامة جديدة من العنف.

ولا يبدو “اتفاق الرياض” استثناء في هذا الجانب بالرغم من الجهود التي يبذلها التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية للحيلولة دون انهيار الاتفاق الموقع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي في نوفمبر 2019، حيث أسهم الثقل السعودي في حماية الاتفاق حتى الآن، وإنعاشه لاحقا من خلال آلية لتسريع تنفيذه، غير أن حالة التحشيد العسكري على الأرض بين مختلف الأطراف، واستمرار المناوشات السياسية والإعلامية وصولا لإعلان المجلس الانتقالي عن تجميد مشاركته في مشاورات تنفيذ الاتفاق، مؤشرات على أن الاتفاق ربما لن يكون بيضة الديك الذهبية في تاريخ الاتفاقات السياسية اليمنية الحافل بالحروب على أنقاض التسويات.

ومنذ التوقيع على “اتفاق الرياض” لم تصمت المدافع إلا قليلا في جبهة أبين المشتعلة، ولم يتوقف مداد المماحكات الإعلامية عن السيلان، في ظل حالة مستشرية من عدم الثقة ورهان متزايد لدى كل طرف على الطرف المقابل بأنه سيبوء بوزر نقض الاتفاق والانقلاب عليه، مع بروز عامل خارجي تتزعمه “الدوحة” وأدواتها في اليمن بهدف التأثير على الاتفاق وإفشاله ودفع الأمور نحو الأسوأ.

لقد انتقلت عدوى الكفر بالاتفاقات من النخب السياسية إلى الشارع اليمني الذي أصبح يضع يده على قلبه بعد كل اتفاق ترقبا لحرب قادمة، كما حدث قبل ذلك مع “وثيقة العهد والاتفاق” التي تلتها حرب صيف 1994، ومؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي تبعه الانقلاب الحوثي وتخلله توقيع اتفاق وثيقة “السلم والشراكة” التي أعقبها تجريف أبسط مقومات السلم والشراكة في البلاد وصولا إلى حرب 2015
وتدخل التحالف العربي لإنقاذ الشرعية.

وبالنظر لبعض زوايا “اتفاق الرياض” والظروف المحيطة به نجد أنه أكثر شبها بالمبادرة الخليجية من ناحية الدول الإقليمية الراعية له وكذلك الأطراف الموقعة عليه، فقد استطاعت المبادرة الخليجية أن توقف حربا أهلية وشيكة توفرت كل مقومات اندلاعها في العام 2011.

ولكن الاتفاق لم يستطع إقناع المكونات اليمنية المتصارعة آنذاك بضرورة الانخراط في عملية سياسية حقيقية خالية من عقد الماضي وأحقاده وهو الأمر الذي تسبب بعد ذلك في تهيئة الأرضية المناسبة للانقلاب الحوثي الذي مرّ على جثة العلاقات السياسية المهترئة بين الأحزاب اليمنية في صنعاء في طريق مروره من صعدة إلى عمران قبل أن يجتاح العاصمة في سبتمبر من العام 2014 ويفتك بالجميع، مستفيدا من تداعيات وآثار الصراع المستعر بين السلطة والمعارضة في المركز، الذي تصاعد في العام 2007 وبلغ ذروته في 2011 مع صعود الأحزاب على موجة الاحتجاجات الشعبية التي عرفت باسم الربيع العربي!

وتتشابه العديد من الظروف التي أحاطت بالمبادرة الخليجية وتشكيل حكومة محمد سالم باسندوة في نوفمبر 2011 والتي عرفت بحكومة الوفاق الوطني والتي تم تشكيلها وفقا للمبادرة الخليجية على أساس المحاصصة الحزبية، مع حكومة معين عبدالملك التي من المفترض أن يتم تشكيلها وفقا للمبادرة الخليجية على أساس حزبي وآخر جهوي، في الوقت الذي لا تبدو فيه المكونات التي ستشارك في هذه الحكومة جادة في طي صفحة الماضي والاستفادة من دروس الماضي القريب جدا.

والمشكلة مستمرة في اليمن في ما يتعلق بمصير الاتفاقات ليس لأنها لا تعالج عمق الأزمات وجوهرها، بالرغم أن في ذلك جانبا كبيرا من الصواب. لكن جذر مشكلة فشل الاتفاقات يعود إلى طبيعة المتصارعين أنفسهم الذين لا يؤمنون بالعمل السياسي أو الممارسة الحزبية بنمطها المعروف في كل ديمقراطيات العالم، بل يتعاملون مع الشكل الحزبي كقناع لإخفاء أطماعهم الأيديولوجية التي لا تقبل بالآخر ولا بالمشترك ولا تستسيغ مفهوم المشاركة أو القسمة على اثنين أو أكثر.

لذلك لم يشهد اليمن فترات استقرار حقيقية في تاريخه القديم أو الحديث أو المعاصر، إلا في المراحل التي سيطر فيها طرف واحد على مقاليد الأمور، لكن تلك الفترات من الاستقرار لم تدم طويلا مع تواري أطراف وقوى أخرى تحت رماد التهميش والإقصاء، لتنطلق مجددا مع أول حالة ضعف تعتري جسد الدولة القائمة، وتبدأ دورة جديدة من مسلسل صراع أزلي لا ينتهي.

عن: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى